الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين،وبعد:
الناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أُوجِزَ في مكان قد يُبْسطَ في مكان آخر، وما أُجْمِلَ في موضع قد يُبيَّن في موضع آخر، وما جاء مطلقاً في ناحية قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عاماً في آية قد يدخله التخصيص في آية أُخرى.
ولهذا كان لا بد لمن يعترض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولاً، فيجمع ما تكرر منه في موضوع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بما جاء مسهبَاً على معرفة ما جاء موجَزاً، وبما جاء مُبيَّناً على فهم ما جاء مُجمْلاً، وليحمل المُطْلَق على المقيَّد، والعام على الخاص، وبهذا يكون قد فسرَّ القرآن بالقرآن، وفهم مراد الله بما جاء عن الله، وهذه مرحلة لا يجوز لأحد مهما كان أن يعرض عنها، ويتخطاها إلى مرحلة أخرى، لأن صاحب الكلام أدرى بمعاني كلامه، وأعرف به من غيره.
وعلى هذا، فمن تفسير القرآن بالقرآن: أن يُشرح ما جاء موجَزاً في القرآن بما جاء في موضع آخر مُسْهَباً، وذلك كقصة آدم وإبليس، جاءت مختصرة في بعض المواضع، وجاءت مسْهَبة مطوَّلة في موضع آخر، وكقصة موسى وفرعون، جاءت موجَزة في بعض المواضع، وجاءت مسْهبَة مُفصَّلة في موضع آخر.
ومن تفسير القرآن بالقرآن: أن يُحمل المجمَل على المبيَّن لِيُفسَّر به، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن، فمن ذلك تفسير قوله تعالى: {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ} بأنه العذاب الأدنى المُعجَّل في الدنيا، لقوله تعالى في آخر هذه السورة: {فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} .. ومنه تفسير قوله تعالى في سورة النساء: {وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} بأهل الكتاب لقوله تعالى في السورة نفسها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ} ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} فسَّرتها الآية: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ} .. ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: {لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَارُ} فسَّرتها آية: {إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ومنه قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} .. فسرتها آية {حُرِّمتْ عَليْكُمُ ٱلْمَيْتةُ} .
ومن تفسير القرآن بالقرآن حمل المُطْلق على المُقيَّد، والعام على الخاص، فمن الأول: ما نقله الغزالي عن أكثر الشافعية من حمل المُطْلَق على المُقيَّد في صورة اختلاف الحكمين عند اتحاد السبب، ومثَّلَ له بأية الوضوء والتيمم، فإن الأيدي مُقيَّدة في الوضوء بالغاية في قوله تعالى: {فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ} .. ومطلقة في التيمم في قوله تعالى في الآية نفسها: {فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ}.. فقيدت في التيمم بالمرافق أيضاً، ومن أمثلته أيضاً عند بعض العلماء: آية الظَهَار مع آية القتل، ففي كفَّارة الظَهَار يقول الله تعالى في سورة المجادلة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .. وفي كفَّارة القتل، يقول في سورة النساء: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} .. فيحُمل المطلق في الآية على المُقيَّد في الآية الثانية، بمجرد ورود اللفظ المقيد من غير حاجة إلى جامع عند هذا البعض من العلماء.
ومن الثاني: نفي الخُلَّة والشفاعة على جهة العموم في قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ}.. وقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله: {ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ}.. واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ}.. ومثل قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ}.. فإن ما فيها من عموم خصُصِّ بمثل قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}.. ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف، كخلق آدم من تراب في بعض الآيات، ومن طين في غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال، فإن هذا ذكر للأطوار التي مَرَّ بها آدم من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه.
ومن تفسير القرآن بالقرآن: حمل بعض القراءات على غيرها، فبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ وتتفق في المعنى، فقراءة ابن مسعود رضي الله عنه: "أو يكون لك بيت من ذهب" تفسِّر لفظ الزخرف في القراءة المشهورة: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ}.. وبعض القراءات تختلف مع غيرها في اللفظ والمعنى، وإحدى القراءتين تُعيِّن المراد من القراءة الأخرى، فمثلاً قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ}.. وفسَّرتها القراءة الأخرى: "فامضوا إلى ذكر الله"، لأنَ السعي عبارة عن المشي السريع، وهو وإن كان ظاهر اللفظ إلا أن المراد منه مجرد الذهاب.
وبعض القراءات تختلف بالزيادة والنقصان، وتكون الزيادة في إحدى القراءتين مفسِّرة للمجمل في القراءة التى لا زيادة فيها، فمن ذلك: القراءة المنسوبة لابن عباس: "ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج".. فسَّرت القراءة الأخرى التي لا زيادة فيها، وأزالت الشك من قلوب بعض الناس الذين كانوا يتحرَّجون من الصفق في أسواق الحج. والقراءة المنسوبة لسعد بن أبى وقاص: "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السُدُس".. فسَّرت القراءة الأخرى التي لا تعرض فيها لنوع الأخوة.
وهنا تختلف أنظار العلماء في مثل هذه القراءات فقال بعض المتأخرين: إنها من أوجه القرآن، وقال غيرهم: إنها ليست قرآنا، بل هي من قبيل التفسير، وهذا هو الصواب: لأن الصحابة كانوا يفسِّرون القرآن ويرون جواز إثبات التفسير بجانب القرآن فظنها بعض الناس - لتطاول الزمن عليها - من أوجه القراءات التي صحَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواها عنه أصحابه.
ومما يؤيد أن القراءات مرجع مهم من مراجع تفسير القرآن بالقرآن، ما روى عن مجاهد أنه قال: "لو كنتُ قرأتُ قراءة ابن مسعود قبل أن أسأل ابن عباس ما احتجتُ أن أسأله عن كثير مما سألته عنه".
وبعد هذا التقديم أعرض الخطة المتبعة في هذا العرض:
بعدما أتممت عملية الجمع في ما يخص تفسير القرآن بالقرآن من الحزب الثالث، عند الإمام القرطبي، حاولت أن أميز بين ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وما فسره الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء ممن ذكرهم الإمام رحمه الله في تفسيره، فقسمت العرض كما يلي:
أولا: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بالقرآن، ثانيا: تفسير الصحابة رضي الله عنهم، ثالثا: تفسير التابعين، رابعا: تفسير علماء اللغة، وختمت هذه الأقسام بتفسير صاحب التفسير، وختمت العرض بأهمية هذا النوع من التفسير، تفسير القرآن بالقرآن.
أولا: تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن بالقرآن
1- الآية : 172 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
هذا تأكيد للأمر الأول ، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل : هو الأكل المعتاد. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51]
ثانيا: تفسير الصحابة القرآن بالقرآن
2- سئل أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال : هما تطوع {مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
ثالثا: تفسير التابعين القرآن بالقرآن
3- قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بـ "الناس" إبراهيم عليه السلام، كما قال : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران : 173] وهو يريد واحدا
رابعا: تفسير علماء اللغة القرآن بالقرآن
4- قوله تعالى : {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} البر ههنا اسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البر بر من آمن ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة : 93] قاله الفراء وقطرب والزجاج.
خامسا: تفسير القرطبي القرآن بالقرآن
5- قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} المعنى : وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا ، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط : العدل ، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال : "عدلا". قال : هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم : 28] أي أعدلهم وخيرهم.
6- قوله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} قيل : المراد بالقبلة هنا القبلة الأولى ، لقوله "كنت عليها". وقيل : الثانية ، فتكون الكاف زائدة ، أي أنت الآن عليها ، كما تقدم ، وكما قال : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] أي أنتم ، في قول بعضهم.
7- قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى "لنعلم" لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل : 1] بمعنى ألم تعلم. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله تعالى : {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران : 140] ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد : 31] وما أشبه.
8- قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي خالق الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم، كما قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ} [المجادلة: 22].
9- قوله تعالى : {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق ، وليس تنفعهم الآيات ، أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير : قبل. وفي التسليم : قبلات. ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة ، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت "لئن" بجواب "لو" وهي ضدها في أن "لو" تطلب في جوابها المضي والوقوع ، و"لئن" تطلب الاستقبال ، فقال الفراء والأخفش : أجيبت بجواب "لو" لأن المعنى : ولو أتيت. وكذلك تجاب "لو" بجواب "لئن" ، تقول : لو أحسنت أحسن إليك ، ومثله قوله تعالى : {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا} [الروم : 51] أي ولو أرسلنا ريحا.
10- قوله تعالى : {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وخصيف. وقيل : استقبال الكعبة ، على ما ذكرنا آنفا.{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ظاهر في صحة الكفر عنادا ، ومثله : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل : 14] وقوله { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة : 89].
11- قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم : 7] ، فالكاف في قوله "كما" هنا ، وفي الأنفال {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الأنفال : 5] وفي آخر الحجر {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر : 90] متعلقة بما بعده ، على ما يأتي بيانه.
12- الآية : 154 {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران : 169]
13- قال تعالى : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} قال الله تعالى في قصة أيوب : {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص : 44] مع أخبر عنه أنه قال : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء : 83].
14- قوله تعالى : {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على عبده : عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج : الصلاة من الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه والدعاء له ، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى ، كما قال : {مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة : 159] ، وقوله {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف : 80].
15- سئل أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قال : هما تطوع {مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
16- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله تعالى : {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} قال : "دواب الأرض". أخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء ، إسناد حسن.
فإن قيل : كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل ؟ قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ، كما قال : {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4] ولم يقل ساجدات ، وقد قال : {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت : 21] ، وقال : {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف : 198] ، ومثله كثير
17- الآية : 161 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت : 25]
18- قوله تعالى : {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث. وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان. والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس : 41] فجاء به مذكرا ، وقال : {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا ، وقال : {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس : 22] فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث
19-قوله تعالى : {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون : 18].
20- قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} كما قال عز وجل. {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27]
21- قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة أهل السنة، لهذه الآية ولقوله تعالى : {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف : 40].
22- قوله تعالى : {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أخبر تعالى بأن الشيطان عدو ، وخبره حق وصدق. فالواجب على العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم ، وبذل نفسه وعمره في إفساد أحوال بني آدم ، وقد أمر اللّه تعالى بالحذر منه فقال جل من قائل : {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ، {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 169] وقال : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة : 268] وقال : { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء : 60] وقال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : 91] وقال : {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص : 15] وقال : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر : 6]. وهذا غاية في التحذير ، ومثله في القرآن كثير. وقال عبدالله بن عمر : إن إبليس موثق في الأرض السفلى ، فإذا تحرك فإن كل شر الأرض بين اثنين فصاعدا من تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبي مالك الأشعري وفيه : "وآمركم أن تذكروا اللّه فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر اللّه" الحديث. وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب.
23- الآية : 169 {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} سمي السوء سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه. وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن ، قال اللّه تعالى : {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك : 27]
24- قوله تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} الألف للاستفهام ، وفتحت الواو لأنها واو عطف ، عطفت جملة كلام على جملة ، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا : نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون ، فقرروا على التزامهم هذا ، إذ هي حال آبائهم.
مسألة : قال علماؤنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد ، ونظيرها : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة : 104] الآية. وهذه الآية والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما ، وذلك أن اللّه سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة ، فاحتجوا بأنه أمر وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك ، وتركوا ما أنزل اللّه على رسوله وأمر به في دينه ، فالضمير في "لهم" عائد عليهم في الآيتين جميعا.
25- الآية : 172 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
هذا تأكيد للأمر الأول ، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع من جميع الوجوه. وقيل : هو الأكل المعتاد. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " أيها الناس إن اللّه تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51]
26- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فأفادت الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بذكر المحرم بكلمة "إنما" الحاصرة ، فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ، فلا محرم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنية ، وأكدها بالآية الأخرى التي روي أنها نزلت بعرفة : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام : 145]
27- قوله تعالى : {الْمَيْتَةَ} نصب بـ "حرّم" ، و"ما" كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي ، منفصلة في الخط ، وترفع "الميتة والدم ولحم الخنزير" على خبر "إن" وهي قراءة ابن أبي عبلة. وفي "حرم" ضمير يعود على الذي ، ونظيره قوله تعالى : {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه : 69]. وقرأ أبو جعفر "حرم" بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها ، إما على ما لم يسم فاعله ، وإما على خبر إن. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع أيضا "الميتة" بالتشديد. الطبري : وقال جماعة من اللغويين : التشديد والتخفيف في ميت وميت لغتان. وقال أبو حاتم وغيره : ما قد مات فيقالان فيه ، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه "ميت" بالتخفيف ، دليله قوله تعالى : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر : 30]
28- قوله تعالى : {غَيْرَ بَاغٍ}، يقال : بغت المرأة تبغي بغاء إذا فجرت ، قال اللّه تعالى : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور : 33]. وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب تقول : خرج الرجل في بغاء إبل له ، أي في طلبها
29- قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني علماء اليهود ، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة رسالته. ومعنى "أنزل" : أظهر ، كما قال تعالى : {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام : 93] أي سأظهر. وقيل : هو على بابه من النزول ، أي ما أنزل به ملائكته على رسله.
30- قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} مذهب الجمهور - منهم الحسن ومجاهد - أن "ما" معناه التعجب وهو مردود إلى المخلوقين ، كأنه قال : اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل : {قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس : 17] و {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم : 38].
31- قوله تعالى : {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} البر ههنا اسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البر بر من آمن ، فحذف المضاف ، كقوله تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة : 93] قاله الفراء وقطرب والزجاج.
32- قوله تعالى : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} الآية. اختلف في تأويلها ، فقالت طائفة : جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه ، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا ، والعبد إذا قتل عبدا ، والأنثى إذا قتلت أنثى ، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة : 45]
33- قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير المال ، كقوله : {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة : 272] ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات : 8]
34- قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله عز وجل: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان : 1 - 3] يعني ليلة القدر ، ولقوله : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1]. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره.
35- قوله تعالى : {بِالْبَاطِلِ} الباطل في اللغة : الذاهب الزائل ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وجمع الباطل بواطل. والأباطيل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللّهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى : {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} [فصلت : 42] قال قتادة : هو إبليس ، لا يزيد في القرآن ولا ينقص. وقوله : {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى : 24] يعني الشرك والبطلة : السحرة.
36- قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا} هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت : 34] وقوله : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة : 13] وقوله : {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل : 10] وقوله : {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية : 22] وما كان مثله مما نزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمر بالقتال فنزل : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} قاله الربيع بن أنس وغيره. وروي عن أبي بكر الصديق أن أول آية نزلت في القتال : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج : 39]. والأول أكثر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين
37- قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} كقوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل : 126].
38- قوله تعالى : {أَوْ نُسُكٍ} النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى. ويجمع أيضا على نسائك. والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة : 128] أي متعبداتنا
39- قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}- قوله تعالى : {جُنَاحٌ} أي إثم ، وهو اسم ليس. {أَنْ تَبْتَغُوا} في موضع نصب خبر ليس ، أي في أن تبتغوا. وعلى قول الخليل والكسائي أنها في موضع خفض. ولما أمر تعالى بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال ورخص في التجارة ، المعنى : لا جناح عليكم في أن تبتغوا فضل الله. وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى : {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة : 10]
خاتمة:
إن تفسير القرآن بالقرآن من أصح طرق التفسير كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وقال ابن القيم " وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير " ولا عجب في ذلك لأن قائل الكلام هو أدرى بمعانيه وأهدافه ومقاصده من غيره وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات بآيات أخرى إشارة منه صلى الله عليه وسلم إلى أهمية هذا العلم ونقل عن الصحابة والتابعين وأتباعهم من ذلك الشيء الكثير وفي ذلك دليل على أهمية هذا الطريق من طرق التفسير ولذا لا يجوز الانتقال من هذه المرحلة إلى غيرها إذا صح شيء من ذلك.